سورة لقمان - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور وفي ترتيب {تلك} مع كل قول منها، و{الحكيم} يصح أن يكون من الحكمة ويصح أن يكون من الحكم، وقرأ جمهور القراء {هدى ورحمةً} بالنصب على الحال من المبهم، ولا يصح أن تكون من {الكتاب} لأنه مضاف إليه، وقرأ حمزة والكسائي {هدى ورحمةٌ} بالرفع على تقدير هو هدى، وخصصه {للمحسنين} من حيث لهم نفعه وهم نظروه بعين الحقيقة وإلا فهو هدى في نفسه، وفي قراءة ابن مسعود {هدى وبشرى للمؤمنين}، ثم وصف تعالى المحسنين بأنهم الذين عندهم اليقين بالبعث وبكل ما جاء به الرسول، وعندهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم ما قال رسول ا لله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث. وقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد، وقال الحسن {لهو الحديث} المعازف والغناء، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد، وقال قتادة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأن ترك ما يجب وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16، 175]، وقد قال مطرف: شراء {لهو الحديث} استحبابه، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالاً ولكن سماعه هو شراؤه، وقال الضحاك {لهو الحديث} الشرك، وقال مجاهد أيضاً {لِهو الحديث} الطبل وهذا ضرب من الغناء.
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً}، والتوعد بالعذاب المهين، وأما لفظة الشراء فمحتملة للحقيقة والمجاز على ما بينا، و{لهو الحديث} كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه، والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزواً ولا عليهم هذا الوعيد، بل ليعطل عبادة ويقطع زماناً بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى، وقيل لبعضهم أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق.
قال الفقيه الإمام القاضي: يريد القديم المعاد، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من الملل، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة {ليُضل} بضم الياء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها، وفي حرف أبيّ {ليضل الناس عن سبيل الله}، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ويتخذَها} بالنصب عطفاً على {ليضل}، وقرأ الباقون {ويتخذُها} بالرفع عطفاً على {يشتري}، والضمير في {يتخذها} يحتمل أن يعود على {الكتاب} المذكور أولاً ويحتمل أن يعود على السبيل، ويحتمل أن يعود على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث، وكذلك {سبيل الله} اسم جنس ولكن وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل.


هذا دليل على كفر الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها، والوقر في الأذن الثقل الذي يعسر إدراك المسموعات، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها، ولما ذكر عز وجل حال هؤلاء الكفرة وتوعدهم بالنار على أفعالهم، عقب بذكر المؤمنين وما وعدهم به من {جنات النعيم} ليبين الفرق، و{وعدَ الله} منصوب على المصدر، و{حقاً} مصدر مؤكد، وقوله تعالى: {بغير عمد ترونها} يحتمل أن يعود الضمير على {السماوات} فيكون المعنى أن السماء بغير عمد وأنها ترى كذلك، وهذا قول الحسن والناس، و{ترونها} على هذا القول في موضع نصب على الحال، ويحتمل أن يعود الضمير على العمد فيكون {ترونها} صفة للعمد في موضع خفض، ويكون المعنى أن السماء لها عمد لكن غير مرئية قاله مجاهد ونحا إليه ابن عباس، والمعنى الأول أصح والجمهور عليه، ويجوز أن تكون {ترونها} في موضع رفع على القطع ولا عمد ثم، والرواسي هي الجبال التي رست أي ثبتت في الأرض، وقوله: {أن تميد} بمعنى لئلا تميد، والميد التحرك يمنة ويسرة وما قرب من ذلك، وقوله تعالى: {من كل زوج} أي من كل نوع، والزوج في النوع والصنف وليس بالذي هو ضد الفرد، وقوله تعالى: {كريم} يحتمل أن يريد مدحه من جهة إتقان صنعه وظهور حسن الرتبة والتحكيم للصنع فيه فيعم حينئذ جميع الأنواع لأن هذا المعنى في كلها، ويحتمل أن يريد مدحه بكرم جوهره وحسن منظره ومما تقضي له النفوس بأنه أفضل من سواه حتى يستحق الكرم، فتكون الأزواج على هذا مخصوصة في نفائس الأشياء ومستحسناتها، ولما كان عظم الموجودات كذلك خصص الحجة بها. وقوله: {أنبتنا} يعم جميع أنواع الحيوان وأنواع النبات والمعادن، ثم وقف تعالى الكفار على جهة التوبيخ وإظهار الحجة على أن هذه الأشياء هي مخلوقات الله تعالى، ثم سألهم أن يوجدوه ما خلق الأوثان والأصنام وغيرهم ممن عبد، أي أنهم لن يخلقوا شيئاً، بل هذا الذي قريش فيه ضلال مبين، فذكرهم بالصفة التي تعم معهم سواهم ممن فعل فعلهم من الأمم، وقوله: {ماذا} يجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء وذا خبرها بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن تكون ما مفعولة بـ أروني وذا وما بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره في الوجهين خلقه.


{لقمان} رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط، فقال بنبوءته عكرمة والشعبي، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعاً وطاعة فإنك ستعصمني وكان قاضياً في بني إسرائيل نوبياً أسود مشقق الرجلين ذا مشافر»، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وابن عباس، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعني، وقال ابن المسيب: كان سودان مصر من النوبة، وقال خالد بن الربيع: كان نجاراً، وقيل كان خياطاً، وقيل كان راعياً، وحكم لقمان كثيرة مأثورة، قيل له وأي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً.
وقوله تعالى: {أن اشكر} يجوز أن تكون {أن} في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي بأن اشكر لله، ويجوز أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو المنتفع بذلك. و{الله} تعالى {غني} عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد {حميد} في نفسه فلا يضره كفر الكافرين و{حميد} بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته، وقوله {وإذ قال} يحتمل أن يكون التقدير واذكر إذ قال، ويحتمل أن يكون التقدير وآتيناه الحكمة إذ قال واختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه واسم ابنه ثاران، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {يا بنيِّ} بالشد والكسر في الياء في الثلاثة على إدغام إحدى الياءين في الأخرى، وقرأ حفص والمفضل عن عاصم {يا بنيَّ} بالشد والفتح في الثلاثة على قولك يا بنيا ويا غلاما، وقرأ ابن أبي برة عن ابن كثير {يا بنيْ} بسكون الياء، و{يا بني إنها} [لقمان: 16] بالكسر، و{يا بنيَّ أقم الصلاة} [لقمان: 17] بفتح الياء، وروى عنه قنبل بالسكون في الأولى والثالثة وبكسر الوسطى وظاهر قوله {إن الشرك لظلم عظيم} أنه من كلام لقمان، ويحتمل أن يكون خبراً من الله تعالى منقطعاً من كلام لقمان متصلاً به في تأكيد المعنى، ويؤيد هذا الحديث المأثور أنه لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم، فأنزل الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} فسكن إشفاقهم.
قال الفقيه الإمام القاضي: وإنما يسكن إشفاقهم بأن يكون ذلك خبراً من الله تعالى، وقد يسكن الإشفاق بأن يذكر الله ذلك عن عبد قد وصفه بالحكمة والسداد.

1 | 2 | 3 | 4